جعلته زوجته يشرب المر من "كيعانه"..وحفاظا على صحته جعلته يشرب من كئووس كبيرة ...صباحا ومساء ، قبل أن يخرج من البيت وحينما يأتى فى المساء ...أصبح مذاق المر فى حلقه ورائحته فى أنفه ، ورفع درجة الحموضة فى معدته ..ولكن لم يكن له حول ولا قوة..
حينما تعلق بها ، كان ذلك منذ زمن بعيد ..ظن أن أحلامه بها ستتحقق . ولكنها قتلت أحلامه وحولتها إلى كوابيس ..ظن أن السعادة ستلازمه طوال حياته ، ولكن السعادة فرت منه كما يفر السليم من صاحب الأمراض المعدية ..
سكت ..والسكوت عند الزواج يعنى الرضا ..ولكن السكوت بعد الزواج يعنى القرف ..وربما اكتشفت زوجته هذا فأخذت تكيل له المر كيلا ..حتى أن رائحة المر كانت تفوح من عرقه ..أهله وأهلها ...وأصدقاؤه وأصدقاؤها ، ومعارفه ومعارفها قالوا إنه ضعيف ...بل ضعيف جدا ..
كالعجينة فى يدها ...تفعل بها ما تشاء ، وتضعها فى الفرن حتى تحترق ...دون اعراض أو حتى أنين ..أما هى فقد كانت على يقين من أنه ضعيف ....
وفجأة وهو فى دوامة المرارة والصمت وجدها ...عندما رآها كان ممسكا بكتاب فى يده ..كتاب قديم قدم الأزل ..لاحت أمامه كحورية ..أو كنجمة ...أو كشمس ..أو كروح دخلت جسده الميت فأحيته ..ظل ممسكا بالكتاب وظل يحملق فيها...بدت بعيدة ..وقريبة فى ذات الوقت ...لم ينطق بحرف ...ظل فقط يحملق فى وجهها الجميل ...يتأمل الشعر الأسود الطويل الذى يمتد أمامه حتى يصل إلى مشارق الأرض ..وكأنه بساط من الحرير ...وإلى عيونها السماوية النورانية ... وإلى الوجه الذى بدا وكأنه البدر فى سماء بلا نجوم ، فى صحراء مقفرة..بعثت فيه الحياة بعذوبتها وجمالها ...تمنى أن تكون عنده القدرة على الحديث معها ..ولكنه استحيا منها ...كيف وهو الذى ظل صامتا طوال هذه السنين ، إنه لا يتحدث إلا قليلا ..وإذا تحدث فلكى يوافق . أما معها فهو يريد أن يقول ويسمع ويقول ....إنه فى شوق إلى سماع صوتها ...وأن يغرق فى الحوار معها ...
وفى طرفة عين أو أقل مثلما ظهرت أمامه ....اختفت . هاهو يقع فى الحب مرة أخرى ، وهل كان هناك حبا قبل ذلك ؟! لا فلقد ظن أنه يحب زوجته ، ولكنه الآن يعلم تماما أنه لم يحبها قط ...
الآن فقط شعر أنه يحب بحق .هذا شئ لاجدال فيه . فلقد تربعت فوق قمة مشاعره فحولتها كلها من المرارة إلى رضا وسلام ...
بمجرد أن وطأت قدماه المنزل أدركت زوجته أن شيئا جللا قد وقع ، وأن تغيرا كبيرا مهولا قد جرى ... إن وجهه لم يعد وجهه ...إن الوجه البائس الحزين المكتئب قد لاحت عليه ابتسامة ...إن عينيه تلمعان ببريق غريب ...وحتى خطواته قد تغيرت ...إنه لم يعد يجرها جرا ...ولم تعد خطواته ثقيلة عليلة ...وحتى عندما ألقى عليها السلام ...كان فى صوته نغمة فرح ...وعل العكس من عادته اليومية فإنه تناول غذاءه البسيط كأنه يأكل وليمة ، وكان راضيا تماما به ...هذا كله جعلها تفقد أعصابها منذ اللحظة التى وقع بصرها عليه ...شعرت وكأن البساط قد سحب من تحت قدميها ...وأنها معلقة فى الهواء ...هزيمتها قد بدأت ...ضاعفت جرعات العذاب والمر وأصرت عليه بكل ما أوتيت من قوة ، ظنا منها أنها ستخضعه وتضعفه بهذه الجرعات .....ولكنه أخرج الكتاب القديم وبدأ يقرأ ... وبمجرد أن أخذ يقرأ حتى لاحت له من جديد وبمجرد أن رأى وجهها حتى نسى زوجته وعالمها بكل ما فيه من ألم وعذاب ، وصراع خفى ....ابتسم ...وغاص فى عيونها ...وعندما أفاق وجد زوجتهه تتحدث إليه ...لم يكن قد سمع منها حرفا ...نظر إليها وكأنه فوق قمة جبل وهى فى واد سحيق يغلفه ظلام وضباب ....
ظل صامتا هادئا حتى عاد إلى دنيا زوجته ...استمرت فى الحديث وكانت غاضبة لأنه لم يعرها أى اهتمام طوال نصف ساعة كاملة ...
اعتـــــــــــــــذر .....
فقدت عقلها ....وقالت كلاما ليس فيه فائدة ولكنه جارح ....فتح الكتاب القديم الأزلى وأخذ يقرأ فيه .....
صرخت فيه زوجته "إنت اتجننت " لم يسمعها ...لقد كان قد بدأ يقرأ وبدا الوجه الجميل يطل عليه من جديد ...قالت زوجته لكل الناس إنه مجنون ...وفى كل يوم كانت تضيف وتخترع من الحكايات والقصص عن جنونه ...ولأنه كان مشغولا عنها وعنهم بالكتاب القديم وعن الناس بالنظر فى وجهها الجميل ...اعتقد الكثيرون بأنه كذلك ...سمع فى أكثر من مكان من أناس يعرفهم جيدا بأنه مجنون ....ووجد أن دفاعه عن هذه التهمه هو الجنــــــــون بعينه ....
تركهم وأهملهم ، وانزوى بعيدا عنهم وفى يوم قالت له زوجته إنه مجنون ....فوجدته يقول لها "انت طالق " .....صعقت من ذلك ...وخرجت وهى تبكى وتقول " المجنون طلقنى " ....ردت عليها جارتها التى خرجت على صوت بكائها "وهل تبكين لأن مجنون طلقك"......
وضعت يدها على وجهها وهى تهمس :"مين قال انه مجنون.....؟!"
تمت بحمد الله وتوفيقه ,,,,,,,,,,,,